عادل زيتون
لابد لأي حضارة أن تستفيد – لاسيما في انطلاقتها الأولى – من إنجازات الحضارات السابقة، ويمكن لها أن تتجاوزها بعد ذلك, فالتراكم الحضاري هو الذخيرة والرصيد الذي تنهل منه كل الحضارات.
على الرغم من هذه الحقائق العلمية فإن هناك فئة كبيرة من الباحثين الغربيين ترفضها رفضًا باتًا، وتتمسك بما عرف بـ «المعجزة اليونانية «الإغريقية»» والتي تقول إن الحضارة اليونانية القديمة هي إبداع أو خلق مطلق أنجزه اليونانيون وحدهم دون أن يستفيدوا من أية حضارة سابقة عليهم أو معاصرة لهم، وبالتالي يُنكر أصحاب هذه النظرية أن يكون اليونانيون قد تأثروا بتراث الشرق القديم أو أفادوا منه في اية مرحلة من مراحل تطور حضارتهم. ومن هنا جاء هذا المقال لمناقشة هذه الإشكالية ومحاولة لإلقاء بعض الضوء على تأثير الشرق الأدنى القديم (مصر وسورية وبلاد الرافدين) في الحضارة اليونانية القديمة، مع الاحترام الكامل لوصية سارتون (مؤرخ العلوم الأول في القرن العشرين) وهي «ألا نسرف في المبالغة في تعظيم دور هذه المؤثرات ولا نسرف في التقليل من شأنها».
بادئ ذي بدء ينبغي أن نستذكر بعض الحقائق التاريخية منها: أن حضارة الشرق الأدنى القديم كانت قد انطلقت نحو الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل بزوغ الحضارة اليونانية القديمة بأكثر من ثلاثة آلاف عام. ولم تكن حضارات هذا الشرق حضارات مغلقة على نفسها، وإنما امتد تأثيرها شرقًا وغربًا. كما أن المجتمع اليوناني القديم نفسه لم يكن، بدوره، مجتمعًا مغلقًا على نفسه، وإنما كان منفتحًا على غيره من المجتمعات، وبالتالي كان اتصاله بحضارات الشرق القديم أمراً لا مفر منه، لاسيما أن هذه الحضارات كانت الأكثر تطورًا وازدهارًا في عالم البحر المتوسط. وتؤكد الكشوف الجديدة في ميدان التاريخ والآثار أن هذا الاتصال كان قويًا ولم ينقطع يومًا سواء في الميدان التجاري أو في الميادين العلمية والسياسية.
عبور التراث
وقبل أن نتناول الميادين التي أفادت منها الحضارة اليونانية القديمة من تراث الشرق الأدنى القديم ينبغي أن نشير إلى بعض المعابر أو المسالك التي من المؤكد أن هذا التراث كان قد انتقل من خلالها إلى بلاد اليونان. ومنها أولاً منطقة «آسيا الصغرى». والمقصود بذلك تحديدًا: الساحل الجنوبي الغربي من آسيا الصغرى (تركيا حاليًا) والتي عُرفت تاريخيًا باسم منطقة أو ساحل «أيونيا»، فهذه المنطقة آسيوية في موقعها الجغرافي وشرقية في تراثها الحضاري، وكان قد استوطنها مهاجرون يونانيون منذ بدايات الألف الأول قبل الميلاد. وازدهرت الحضارة فيها قبل أن تزدهر في بلاد اليونان الأم (أي أثينة وإسبارطة)، لأن مدنها، وبخاصة ملطية، كانت مصبًا للمتاجر والثقافات التي كانت تصل إليها من بلدان الشرق الأدنى (مصر وسورية والرافدين) والشرق الأقصى (الهند والصين). ولم يكتف أهل أيونيا بما كان يصل إلى مدنهم من تراث الشرق، وإنما انطلقوا بأنفسهم يجوبون البلاد شرقًا وغربًا بحثًا عن التجارة والعلم؛ بحيث لم يبدأ القرن السابع ق.م حتى كان اليونانيون، من أهل أيونيا، قد طوقوا البحر المتوسط بمستعمراتهم، وتفتحت عيونهم على حضارة بلاد الشرق الأدنى، وعن طريقهم دخل الكثير من تراث هذه البلاد إلى بلاد اليونان. وبعبارة أخرى فقد كانت مدن آسيا الصغرى منطلق المدارس العلمية والفلسفية اليونانية من ناحية وأحد المعابر الرئيسية التي انتقل من خلاله تراث الشرق القديم إلى بلاد اليونان الأم ومن ثم إلى أوربا الغربية من ناحية أخرى. ولا شك في أن هذه الحقيقة تذكرنا بحقائق تاريخية لاحقة وهي انطلاق النهضة الأوربية الحديثة من صقلية وجنوب إيطاليا وإسبانيا حيث كان التراث العربي الإسلامي فيها راسخًا وعميقًا.
أما المعبر الثاني الذي انتقل من خلاله تراث الشرق القديم إلى بلاد اليونان فهو تلك النخبة من العلماء والفلاسفة اليونان ، الذين ارتحلوا إلى بلدان الشرق الأدنى وأقاموا في ربوعها، وشاهدوا بأنفسهم إنجازاتها المذهلة، وعادوا إلى بلادهم وقد نهلوا من علومها ومعارفها. ومن هؤلاء نذكر على سبيل المثال 1- طاليس (ت547 ق.م.) الذي كان قد ولد في مدينة ملطية المذكورة سابقًا، ويقال إنه من أبوين سوريين (فينيقيين)، وهو من أوائل العلماء الإغريق الذين ارتحلوا إلى بلدان الشرق الأدنى، حيث تعلم في مصر الرياضيات والهندسة، وأخذ عن البابليين علم الفلك، حتى أنه تنبأ بكسوف الشمس يوم 28 مايو من عام 585 ق.م. بناء على المعطيات الفلكية التي عرفها من علماء بلاد الرافدين. وقد عاد طاليس إلى بلاده حاملاً معه الكثير من علوم الشرق وشكل حلقة اتصال في انتقال تراث هذا الشرق إلى بلاد اليونان. 2- فيثاغورس الذي ولد حوالي 580 ق.م. في جزيرة ساموس الواقعة على الساحل الأيوني، وانتقل إلى ملطية حيث تعلم على أيدي طاليس، ثم سافر إلى بلدان الشرق الأدنى، وأمضى سنوات طويلة فيها، ثم عاد إلى موطنه بعد أن حمل معه الكثير من علومها، لاسيما في ميدان الرياضيات والهندسة والفلك والفلسفة والموسيقى والعقائد الدينية. 3- هيرودوت (ت425ق.م.)،الملقب بـ «أبي التاريخ»، والذي كان قد ولد في إحدى مدن آسيا الصغرى. ويتضح من كتاباته أنه زار مصر وسورية وبلاد الرافدين وفارس وغيرها من البلدان الآسيوية والإفريقية. وقد خص رحلاته هذه المراكز العلمية والثقافية التي كانت منتشرة في هذه البلاد، ثم عاد إلى بلاده حاملاً تراثًا علميًا ضخمًا وإعجابًا عميقًا بحضارة الشرق الأدنى. وقد عبر عن ذلك بوضوح في ثنايا كتاباته، حتى أنه خصص أحد كتبه للحديث عن مصر وحضارتها وأهلها. 4- كما زار بلدان الشرق الأدنى القديم عدد كبير آخر من علماء اليونان وفلاسفتها أمثال: ديمقراطيس (ت 356ق.م.) وافلاطون (ت347ق.م.) وغيرهما. وقد مكث هؤلاء جميعًا فترات طويلة في بلدان الشرق وأشادوا بحضارتها وأعربوا عن احترامهم لها واعترفوا بإفادتهم من علومها وفلسفتها وعقائدها وطقوسها الدينية وفنونها وآدابها.
أما المعبر الثالث فهو رحلات أبناء الشرق أنفسهم إلى بلاد اليونان، وغيرها من بلدان عالم البحر المتوسط والغرب الأوربي، بدوافع تجارية وسياسية. فمن المعروف أن المصريين القدماء أقاموا مستوطنات لهم في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، بل يؤكد هيرودوت أنهم أقاموا مستوطنات لهم في شبه جزيرة البليوبونيز نفسها، ويكفي أن نعرف أن مصر كانت هي المصدّر الرئيسي للقمح وورق البردي إلى بلاد اليونان. كما قام الفينيقيون (وهو الاسم الذي أطلقه اليونانيون على كنعانيي الساحل السوري) بنشاط تجاري واستيطاني واسع في عالم البحر المتوسط ، منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد؛ حتى أنهم سبقوا اليونانيين في اكتشاف الغرب الأوربي. ويهمنا أن نؤكد أن هذا النشاط التجاري للمصريين والسوريين كان يحمل في ثناياه علاقات حضارية واسعة، فالتجار لم ينقلوا السلع والمتاجر فحسب، وإنما حملوا معهم أيضًا الأفكار والعادات والقيم والفنون والعقائد والعلوم؛ وكانت مستوطناتهم على سواحل المتوسط وعلى الأرض اليونانية مراكز حضارية أضاءت بنورها لا بلاد اليونان وحدها وإنما الغرب الأوربي أيضًا.
ومن ناحية أخرى هاجر الكثير من علماء الشرق الأدنى إلى بلاد اليونان بسبب احتلال الفرس، في عهد الملك قورش الثاني (559-529ق.م.) وفي عهد ابنه قمبيز الثاني (529-521ق.م.)، لبلدان الشرق الأدنى (بلاد الرافدين وسورية ومصر)، كما أن الاحتلال الفارسي لآسيا الصغرى أدى إلى تشتت فلاسفتها وعلمائها في أرجاء الغرب الأوربي؛ بل إن الكثير من مدنها قد أُفرغت من مثقفيها مثل مدينة ملطية التي انتهى عهد ازدهارها العلمي منذ سقوطها بيد الفرس عام 546ق.م. وتؤكد المراجع أن المدرسة الفيثاغورية في جنوب إيطالية قد تأسست على أيدي أحد العلماء المهاجرين من آسيا الصغرى بعد هذا الاحتلال. وجاءت فتوحات الإسكندر الكبير المقدوني (356- 323 ق.م.) لتشكل المعبر الرابع الذي انتقل من خلاله تراث الشرق إلى بلاد اليونان. فقد اكتسح الاسكندر بفتوحاته مراكز الحضارات الشرقية المعروفة آنذاك، وأصدر أوامره إلى قادة جيشه أن يجمعوا لأستاذه أرسطو(ت322ق.م.) كل العينات العلمية التي طلبها؛ وقد أصبحت هذه العينات، فيما بعد، نواة لأول متحف ومكتبة يونانية، هذا بالإضافة إلى أنها وفرت لأرسطو المادة العلمية اللازمة لأبحاثه الشخصية. كما بنى الإسكندر مدينة الاسكندرية عام 331ق.م. لتكون عاصمة جديدة لإمبراطوريته، والتي ستتحول في عهد خلفائه البطالسة إلى مركز علمي متميز في عالم البحر المتوسط.
تأثيرات مصرية
أما الميادين التي أفادت منها الحضارة اليونانية القديمة من تراث الشرق الأدنى القديم فهي كثيرة وعميقة، ومع أن المجال لا يسعنا للإفاضة بتفاصيلها في هذا المقال، فإنه يمكن أن نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر. فقد أفاد اليونانيون من الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) في ميادين كثيرة منها: الرياضيات والهندسة. وتؤكد وثائق البردي، التي تعود في أصولها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، تفوق المصريين القدماء في هذين العلمين، لاسيما أن بناء الأهرام يتطلب دقة في القياس لا يمكن الوصول إليها دون معرفة واسعة بالهندسة والعلوم الرياضية. كما تطلبت عمليات مسح الأراضي، بعد فيضان النيل وانخفاضه، إجراء عمليات حسابية واسعة ودقيقة. ولقد أشار أرسطو إلى نشأة الرياضيات العملية في مصر، وأكد هيرودوت انتقال علم الهندسة من مصر إلى بلاد اليونان. وكشفت المراجع أن فيثاغورس عاد من مصر إلى بلاده وهو يحمل معه مبادئ علم الهندسة. كما أفاد اليونانيون من علوم المصريين القدماء وخبراتهم في ميدان الطب والتشريح، فقد تحدث هيرودوت عن براعة المصريين وتقدمهم في هذا الميدان، وتؤكد وثائق البردي الطبية، التي تعود إلى العصر الفرعوني المبكر، هذه الحقائق كلها. ومن الثابت أيضًا أن اليونانيين قد تأثروا بعقائد المصريين وطقوسهم الدينية تأثرًا بالغًا. فقد حظيت آلهة المصريين باحترام اليونانيين، بل اعتبر هيرودوت أن أصل معظم أسماء الآلهة اليونانية إنما جاء من مصر، فآمون المصري هو زيوس (كبير آلهة اليونان)، وإيزيس المصرية هي ديميتر اليونانية، وأوزيريس المصري هو ديونيوس اليوناني…إلخ. وتحتوي الجزر اليونانية على معابد ونقوش مخصصة لإيزيس وغيرها من الآلهة المصرية. كما بين هيرودوت أن الكثير من طقوس اليونان الدينية ذات أصول مصرية مثل عادة النوم في المعبد، اعتقادًا منهم أن الذي ينام في المعبد – كما يقول سارتون- يعتبر ضيفًا في العالم الآخر ورفيقاً للموتى، وأحلامه في المعبد لها قيمة خاصة. كما تأثر اليونانيون بدعوة إخناتون (ت1350ق.م.) الذي دعا إلى إله واحد وجاهد لرفع مستوى وعي الإنسان الديني. وظل للآلهة المصرية مكانة كبيرة في بلاد اليونان على امتداد قرون طويلة، حتى أنه عندما احتل الاسكندر المقدوني مصر عام 332ق.م، نُصِّب فرعوناً حسب الطقوس الدينية المصرية، كما ارتحل بنفسه إلى قلب الصحراء الغربية لزيارة معبد الإله آمون، الذي كان قد ذاع صيته وانتشرت عبادته في العالم اليوناني. ولم يقف تأثر اليونانيين بالحضارة المصرية القديمة عند الميادين السابقة وإنما امتد إلى ميدان الأدب والأساطير، حيث تسرب، بصفة خاصة، الأدب الأسطوري المصري إلى ثقافة اليونان، مثل أسطورة أوزيريس المصرية، التي تعد رمزاً لعلاقات الإنسان بالطبيعة والآلهة، ويعتبرها جارودي أول تراث غني أسمهت به مصر في الحضارة الإنسانية.
… وتأثيرات سورية
وأفادت الحضارة اليونانية من الحضارة السورية القديمة، التي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد، فائدة مزدوجة، فقد أفادت من إنجازات هذه الحضارة وإبداعات أهلها المادية منها والفكرية من ناحية، ومما نقله التجار الفينيقيون (الكنعانيون) من متاجر وأفكار بلدان الشرقين الأدنى والأقصى إلى بلاد اليونان من ناحية أخرى. والواقع أن أعظم هدية قدمها الفينيقيون للحضارة الإنسانية كانت اختراع الحروف الأبجدية منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، وقد اقتبس اليونانيون هذه الأبجدية الفينيقية منذ أواخر القرن العاشر قبل الميلاد تقريباً. وقد أكد هذه الحقيقة المؤرخون اليونان أنفسهم، فهذا هيرودوت يقول إن الفينيقيين علموا اليونانيين كثيراً من العلوم والمعارف وفي مقدمتها الحروف الأبجدية التي لم يكن هؤلاء على علم بها. ومن خلال اليونانيين والفينيقيين دخلت هذه الحروف إلى إيطاليا ثم إلى الغرب الأوربي عامة. فقد أخذ الرومان من اليونانيين كثيرًا من العناصر الحضارية وكان من أهمها الأبجدية الفينيقية. وقد أظهر اليونانيون براعة في تطوير هذه الأبجدية بحيث تلائم خصائص لغتهم، حيث أضافوا إليها الحروف الصوتية وأخذوا يكتبونها من اليسار إلى اليمين بعكس الفينيقيين. ولاشك في أن «الألف بتا» الأوربية هي أثر باق من الدين العظيم المدين به، لا اليونانيون فحسب، وإنما الغرب الأوربي كله للفينيقيين.
أما ما نقله التجار الفينيقيون إلى العالم اليوناني من سلع ومتاجر، وما تحمله في ثناياها من ثقافات وفنون وصناعات، فهي لا تعد ولا تحصى. فقد نقلوا صناعات سورية ومصرية ورافدية، هذا فضلاً عن سلع الشرق الأقصى؛ ونذكر منها على سبيل المثال: القمح وورق البردي والعطورات من مصر، والمجوهرات والمصنوعات النسيجية والمعدنية والزجاجية والعاجية والصباغة الأرجوانية من سورية وبلاد الرافدين، هذا بالإضافة إلى الحرير والتوابل والأحجار الكريمة القادمة من الصين والهند. ويؤكد برستد أن اليونانيين لم يكتفوا بشراء المصنوعات الشرقية التي كان ينقلها هؤلاء الفينيقيون وإنما أخذوا يقلدونها ويتعلمون على أيدي الصناع الفينيقيين الكثير من فنونها، حتى شاع بين اليونانيين أنفسهم فن الزخرفة والتزويق الشرقي.
… ومن بلاد الرافدين
أما الميادين التي أفادت منها الحضارة اليونانية من حضارة بلاد الرافدين- التي يعدها المؤرخون بحق مهد الحضارة الإنسانية- فقد كانت كثيرة، وفي مقدمتها الكتابة المسمارية، التي شكل اختراع السومريين لها (نحو 3200ق.م.) نقطة الانطلاق الحاسمة في تقدم الحضارة الإنسانية ، لأن جميع الشعوب استخدمت المسمارية في كتابة لغاتها. كما أفاد اليونانيون من تراث الرافدين في ميدان الرياضيات، العملية منها والنظرية. وتؤكد المراجع أن العالم الرياضي فيثاغورس قد اعتمد كثيرًا في بناء نظرياته الرياضية على ما كان قد توصل إليه علماء الرافدين من نظريات. وتعلم اليونانيون من البابليين، ومن ثم الكلدانيين، مبادئ علم الفلك وطرائق رصد الأجرام السماوية وأدواته، والجداول الفلكية والخرائط الجغرافية والتقاويم الفلكية حتى أن التقويم البابلي والكلداني صار نموذجًا للتقاويم الإغريقية والرومانية قبل إدخال التقويم اليوناني. وكان العالم اليوناني طاليس – كما أشرنا – قد تنبأ بكسوف الشمس الذي حدث في الثامن والعشرين من شهر مايو عام 585 ق.م. بعد أن اطلع على علوم البابليين الفلكية. ولا شك في أن اليونانيين قد أفادوا من البابليين في ميدان القانون ولاسيما أن قانون حمورابي (1750ق.م.) غدا نموذجاً لكل القوانين التي سادت في الغرب والشرق في العصور القديمة.
وتأثر اليونانيون تأثرًا واسعًا وعميقًا بالأدب الملحمي الذي ازدهر في بلاد الرافدين، ولعل أبرز مثال على ذلك تأثر الشاعر اليوناني هوميروس (الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد) في ملحمتيه «الإلياذة» و«الأوديسة» بملحمة جلجامش الرافدية المشهورة. وتؤكد الدراسات الحديثة أن ملحمة جلجامش هذه قد سبقت ملحمة هوميروس بأكثر من ألف وخمسمائة عام، بل تعد أقدم الملاحم البطولية في تاريخ الحضارات. وهي تعالج قضايا إنسانية خالدة مثل الحياة والموت والخلود والحكمة والمعرفة والحرية والبطولة… ولهذا كان جارودي على حق بقوله: إن ملحمة جلجامش تشتمل على كل مقومات الفكر الغربي، والذي يعد وريث الحضارة اليونانية القديمة. كما تأثر الأدب الأسطوري اليوناني القديم بالأساطير البابلية القديمة لا سيما تلك المتعلقة بقصة الطوفان والخلق. هذا فضلاً عن أسطورة عشتار وتموز البابلية
نقد نظرية «المعجزة اليونانية»
ولكن على الرغم من هذه الحقائق التاريخية وغيرها، مازال معظم الباحثين الغربيين (وهم أحفاد الحضارة اليونانية القديمة) ينكر أن يكون لتراث الشرق الأدنى القديم أي تأثير في حضارة اليونان، ويتمسك بنظرية «المعجزة اليونانية». ويستند هؤلاء في موقفهم هذا إلى أن علوم الشرق القديم هي علوم تطبيقية وجاءت تلبية لحاجات عملية، ولم تكن بناء على براهين عقلية أو قوانين علمية كما هو الحال بالنسبة إلى علوم اليونان. فالمصريون مثلاً تقدموا في علم الهندسة لحاجتهم إلى بناء الأهرام ومسح الأراضي، والبابليون أبدعوا في علم الفلك لحاجتهم إليه في ميدان الزراعة والتنجيم…إلخ. والواقع أن هذه الحجج لا تصمد أمام النقد العلمي، لأن الفصل بين النظرية والتطبيق هو فصل غير علمي ولا تبرره – كما يقول الدكتور فؤاد زكريا- التجربة البشرية. فكيف يمكن لشعب أن يتقدم في العلوم التطبيقية دون أن يكون هذا التقدم قائمًا على أفكار ونظريات علمية؟ كيف استطاع المصريون مثلاً بناء الأهرام (خلال الألف الثالث قبل الميلاد) لو لم يكونوا على دراية واسعة بقوانين علم الهندسة؟ وكيف كان للبابليين أن يتنبأوا بالكسوف والخسوف لولا تقدمهم في قوانين علم الفلك؟ وفي الحقيقة لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن علوم الشرق القديم كانت أصيلة وجديرة بالإعجاب، بل كان بعضها أعلى مستوى من العلوم اليونانية في عصرها الذهبي.
إن عدم اعتراف أصحاب نظرية «المعجزة اليونانية» بدور تراث الشرق القديم، في انطلاق الحضارة اليونانية القديمة وتطورها، إنما يعود إلى أسباب كثيرة وشائكة؛ بعضها يعزى إلى تعصب الأوربيين ونظرتهم العنصرية التي تقوم على الاعتقاد بأن الرجل الأبيض مبدع وخلاق بطبيعته، في حين أن الآخر عاجز عن ذلك حتى «بيولوجيا»، وبعضها الآخر يعود إلى قراءة الأوربيين لتاريخهم قراءة «ذاتية»، بحيث يجعلون من أنفسهم بناة الحضارة الإنسانية وينتقصون من تاريخ الأمم الأخرى ودورها الحضاري. وبناءً على هذا «التضخم» في «الأنا» الأوربية ظهرت نظرية «المعجزة اليونانية».
والواقع أن التأكيد على المنابع الشرقية للحضارة اليونانية القديمة لا يُعد بحال من الأحوال انتقاصاً من قيمة هذه الحضارة ودورها في بناء الحضارة الإنسانية. فنحن لا ننتقص من قيمة حضارتنا العربية الإسلامية عندما نعترف بتأثرها بحضارات الأمم الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة اليونانية القديمة، والتي غدا علماؤها وفلاسفتها أكثر شهرة في العالم العربي والإسلامي مما كانوا عليه في الغرب الأوربي والعالم البيزنطي في العصور الوسطى.
إذا كان الوفاء واحترام الآخر والاعتراف بالجميل قيماً إنسانية رفيعة في العلاقات الاجتماعية، فإنها تشكل شرطًا أساسيًا لقيام حوار جاد بين الحضارات. ولهذا فإن نظرية «المعجزة اليونانية» تتناقض مع حقائق التاريخ والعلم والعقل.
التي أثّرت في أسطورة أفروديت وأدونيس اليونانية. وكانت هذه الأسطورة وغيرها قد وصلت إلى بلاد اليونان عن طريق الفينيقيين. ويعتقد أحد الباحثين أن سكان الرافدين قد عالجوا بأساطيرهم مشكلات أساسية غدت في معظمها مواضيع فلسفية عالجها فلاسفة اليونان فيما بعد، وأضافوا إليها إضافات جديدة شكلت تطوراً كبيراً في ميدان الفكر الإنساني.